انتصرعلى خمسة من إخوته نازعوه الملك وكان فقيها مؤلفا واليوطي كتب أنه تسلم عقد الحماية الموقع من السلطان في نفس اللحظة التي تسلم فيها هذا الأخير الشيك والواحد منهما يمسك بأطراف الوثيقتين في نفس الان، بين الجلباب والبلغة المخزنيتين وبين البذلة الأوربية والسيجار، وبين الدخول في قلب السجال الفكري السلفي كسلطان مفكر، وبين محاولاته للتخلص من شروط "الخزيرات" التي وقعها أخوه مولاي عبد العزيز."
هذه حكاية سلطان استثنائي ومسار مفكر جلس على أريكة السلطة: بويع بيعة مشروطة اعتبرت اللبنة الأولى لـ"سلطة دستورية"، وكان معارض شرسا للمستعمر، قبل أن يوقع وثيقة الحماية ويتنازل عن العرش، فحسبه. داء العطب قديم.
"لا يجب ان ننكر الرقص وحده، بل الواجب أن نقوم الان بمجاناة الذهب وظروف النشوى المذهبية ومجادل الحرير فنزيلها". هكذا جادل محمد بن عبد الكبير الكتاني السلطان مولاي حفيظ بطريقة لا تخلو من جسارة وندية، حينما شجب السلطان الصوفية وأدان النوافل والجدبة واستعمال الالات الموسيقية.
وحسب الباقر حفيد شيخ الزاوية الكتانية، فإن جده يقصد السلطان صراحة، لاسيما وقد كان بيد مولاي حفيظ:"حق نشوى من الذهب وعليه مجانة ذهبية وحمالة حرير" كما ينقل حفيد الشيخ بكثير من التفاصيل المثيرة في كتابة الشهير "ترجمة الشيخ".
بل وصل الأمر بالكتاني إلى تحدي السلطان في أمور تمس مباشرة وظيفته كأمير للمؤمنين، وإلى أن يقول للسلطان في حضرة العلماء: "ثم نخرج فلا نمر بطريصقنا على محل من محال البغي ولا مخمرة إلا سددناها، ثم لا نمر على صاحب دكان لا يعرف كيف يبيع ويشتري غلا أقمناه، فإذا وصلنا للزوايا بحثنا في بدعهم ومناكرهم كذلك، وإما إغضاء الطرف وإحداث التوجيهات لكل محرم ومكروه، غلا التصوف والصوفية فمن غير مفرق وتخصيص بدون تخصص".
يخبرنا حفيد المتاني ان رد فعل مولاي عبد الحفيظ كان عنيفا، حيث "قام السلطان غاضبا، في حين نزل الشيخ الإمام ساخطا" (الباقر الكتاني، ترجمة الشيخ .ص 214،215) تخيلوا، مولاي حفيظ السلطان المطلق الذي كان ينشط دروسا حديثية يحضرها عدد مهم من صفوة العلماء، فإذا بأفكاره تتعارض أكثر مما تتلاقى مع الشيخ.
فارع الطول، عظيم الهيأة، ممتلئ الجسم يميل إلى البدانة، الصور التي بين أيدينا على الأقل تؤكد ذلك.
وهنا لا بأس من التذكير ببعض القصص والحكايات التي نشرت عن أجداد السلطان مولاي حفيظ من سلالة العلويين، والتي لا تخلو بعضها من أسطرة وإعجاز يكاد يميل إلى الخرافة، فهذا مولاي امحمد مثلا الذي يعتبر أول سلطان علوي اعتلى العرش بعد نجاح جده الأكبر مولاي الشريف في مزاحمة السعديين وبداية سحب بساط الحكم من تحت أقدامهم، وهو السلطان الذي حكم المغرب في الفترة مابين 1635 و1644، وقج قتل في معركة دارت بينه وبين شقيقه المولى الرشيد.
حكى الكثير عن السلطان امحمد هذا حول اهتمامه بالأدب وعن بنتيه الجسدية الشبيهة بالبنية الجسدية للسلطان مولاي حفيظ أحد حفدة الأسرة العلوية الحاكمة، الشيء الذي يلتقي مع بعض من ملامح السلطان الذي نرسم صورته والحالة هاته، قيل إنه كان فارع الطول، قوي الجسم إلى الدرجة التي يصفه فيها الناصري صاحب كتاب الاستقصا، برواية لا تخلو من غرابة:" حكي أنه في بعض أيام حصاره على تبوعصامت جعل يده في بعض ثقب الحصن وصعد عليها ما لا يحصى من الناس كأنها خشبة منصوبة ولبنة مضروبة، وكان سخيا جدا، حتى أنه أعطى الأديب الشهير المتقدم في صناعة الشعر المعرب والملحون.. رطلا خالصا من الذهب جائزة له على أمداحه فيه، وحكايته في هذا المعنى شهيرة".
(المجلد الثالث ص 23).
بجلابته المخزنية، وعمامته الحريرية ولباسه الأبيض الخاطف للأبصار الذي يتنافس في تمييز نصاعة بياضه، من جهة شريط أحمر يغطي جبهة السلطان، ومن جهة أخرى البلغة الفاسية الصفراء اللون، وهي غالبا البلغة التي – يقول التقليد المخزني بألا يلبسها السلطان مرتين أبدا- حسب غابريل فير مصور شقيقه مولاي عبد العزيز الذي سبق مولاي حفيظ إلى الجلوس على كرسي السلطنة ( قي صحبة السلطان 2009 ص 135).
فصيح اللسان، قوي الشخصية، لم يكن يخوته لا الذكاء السياسي ولا فن الخطابة، كانت للسلطان صاحب الدروس الحفيظية هيبته. هو سلطان الجهاد، الفقية والسياسي والعالم والشاعر والأديب والمفكر الذي خلع أخاه من العرش باسم مواجهة المستعمر ومكافحة الفساد ودسائس السلطة ومفسدة السياسة.
ولنعد إلى المشهد الذي لا يخلو من مقاطع غرائبية.
السلطان الذي يبسط أقصى سجادات الوقار والإجلال للشيخ الكتاني في اجتماعات التشاور مع أهل الحل والعقد، يتعرض على يده بواحدة من حلقات النقاش الفكرية إلى المساءلة.
"... وفي هذه الدروس كانت الأفكار تتلاقى وتتعارض، فهناك السفلي المتفتح، وهناك العام المتصوف، وهناك السياسي الأديب، وهناك الفقيه الأديب، ومع هؤلاء كان يوجد خدام المخزن وموظفوه وقواده. وفي هذه المجالس الحديثية كان الحاضرون يشهدون احتداد التعارض حول بعض المسائل الاعتقادية بين السلطان والشيخ، كمسألة الزيادة على أربع زوجات، ومسألة حياة الأنبياء، وإذا أبرزت ظاهرة إيجابية من إيجابيات العهد الحفيظي، فإنها أدت إلى توترات وإلى صراعات فكرية ومذهبية فكان السلطان ومؤيدوه في جانب وفي الجاتب الاخر كان الشيخ وأتباعه. ذلك أن السلكان كان ينكر حياة الأنبياء في دروسه، ويتمذهب بالمذهب الظاهري في الزيادة على الأربع، وينكر حلقات الذكر "الرقص" (الدكتور علال الخديمي: الحركة الحفيظية بالمغرب قبيل فرض الحماية، الطبعة الأولى 2009 ص: 359)
يؤكد "ميشو بيلير" على أن الكتاني كان يناور خلال تلك الفترة من أجل استرجاع عرش الأدراسة، أي أنه كان في نيته خلع السلطان وإعلان نفسه خليفة بدله. في حين يرى عبد الله العروي أن الأمور أخذت منحى أكثر وضوحا: "كان مولاي عبد العزيز قد كف فعليا عن ملء وظائف السلطان كما تحددها نصوص البيعة. فمن كان مهيأ لخلافته؟ طبعا محمد بن عبد الكبير الذي كان يقوم بالمهمة داخل فاس، أو أي شخص اخر له مؤهلات أحسن". (محمد الطوزي، الملكية والإسلام السياسي في المغرب: الطبعة 99 ص 57).
تطول حكايات السلطان مع الكتاني، ولا يسعنا المجال لسرد كل تفاصيلها المثيرة، لكنها تعطينا صورة دالة عن شخصية السلطان مولاي حفيظ التي تكاد تكون نقيضة لصورة شقيقه مولاي عبد العزيز.
لكن، الثابت أن نهاية الشيخ الكتاني وباقي أفراد عائلته كانت أكثر من درامية، على يد السلطان مولاي حفيظ الذي انتقد سياسته وفر إلى قبلية بني مطير، لأسباب يظل الخفي فيها أكثر من الظاهر، فقد أدخل الشيخ مع أبيه وأخيه وابنه البكر إلى السجن، بل وتعرض شيخ الزاوية الكتانية للجلد حد الموت في ماي 1909 على العهد الحفيظي، وضيق الخناق على اتباع الزاويا الكتانية ومنع التظاهر بشعائرها إلى غاية تنحي مولاي حفيظ عن الحكم، أي إلى غاية حكم مولاي يوسف.
لا يمكن فهم شخصية السلطان مولاي حفيظ دون العودة إلى شقيقه مولاي عبد العزيز، والمقارنة بين السلطانين.
ويكفي أن تذكر "الأيام" القارئ بهذا الصدد، أنه في الوقت الذي كان يقضي فيه أخوه الأصغر مولاي عبد العزيز "السلطان الصغير" نهارات يومه متبطلا هني البال مهووسا بأنواع الدراجات والسيارات وكذا ألات التصوير، التي أغدقها عليه الإنجليز، كان مولاي عبد الحفيظ يعكف على مزيد من الإبحار في علوم السياسة والفقه والشعر، بالإضافة إلى تمرسه على المهام الإدارية والعسكرية. ولتبين الفرق ما عليكم إلا العودة من جهة إلى مذكرات مصور السلطان عبد العزيز التي رصد فيها يوميات خلف السلطان مولاي الحسن مدلل أمه للا رقية، ومن جهة أخرى إلى الكم الهائل من المراجع التي ألفها السلطان مولاي حفيظ سواء حينما كان خليفة لأخيه في مراكش أو قبلها عندما كان طالبا، وحتى حينما اعتلى العرش.
فلما توفي السلطان مولاي الحسن سنة 1894، كان عيد الحفيظ مهيأ ليخوض مجال الحياة العامة وهو مسلح بسلاح المعرفة، مستعينا بما راكمه من التجربة الميدانية العسكرية والحذاقة السياسية.
نحن أمام شخصية غير عادية، تتمتع بالكثير من الذكاء والدهاء السياسي، وهذا ما سنلمسه ونحن نقترب أكثر من شخصية واحد من أبرز السلاطين العلويين.
عكس مولاي عمر شقيق مولاي عبد العزيز، لم يعارض مولاي عبد الحفيظ بيعة أخيه الأصغر، أي أنه لم ينقلب ضد ما فعله أحمد بن موسى، ولعل هذا ما جعل الصدر الأعظم والرجل القوي في عهد السلطان عبد العزيز أبا حماد يعتمد على مولاي حفيظ في تولي مهمات إدارية وعسكرية عديدة.
فلما قرر باحماد مثلا إرسال حركات إلى سوس لإعادة الأمن وتعيين شيوخ يحظون برضى قبائلهم، بعث مولاي عبد الحفيظ خليفة عن المخزن على رأس محلة كبيرة، لدعم القواد والحركات المرسلة للجنوب.
جرت العادة في أعراف وتقاليد السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، ولاسيما سلاطين الدولة العلوية، أن يعينوا خليفة ينوب عنهم في إحدى عواصم البلاد لاسيما مراكش وفاس، وكان بلاط الخليفة في العادة، يتألف من قائد للمشور بمثابة وزير يكون عينا له على كل أمور الخلفية الإدارية والسياسية، وكانت مهمة الخلفية محددة.
كان على الخلفية أن يخرج لصلاة الجمعة ولصلاة العيدين، أما البروتوكول المتبع فلم يخرج عن هذا الإطار: عندما يريد الخليفة الخروج لصلاة الجمعة أو لصلاة العيدين أو لأجل تعمير المشور، يقف المشاورية وأصحاب المكاحل من الجيش لتحية الخليفة وعند انتهاء المهمة ينصرفون لأماكنهم، إذ لم تكن للخليفة سلطة على الجيش، الذي كانت قيادته من اختصاص باشا القصبة.
إنه الوصف الذي يقدمه كتاب من فئة تربو عن الـ500 صفحة للدكتور علال الخديمي الذي برع في تحليل فترة حكم السلطان عبد الحفيظ.
وما عليكم إلا أن تتصوروا خلفية للسلطان من عيار شخصية عبد الحفيظ تتبينوا الحجم والمساحة اللذين سيحتلهما في مراكش.
فقد واقتدار سياسيين كبيرين، وعرف كيف يقوي نفوذه ويتجاوز الكثير من العقبات في كل الظروف والتقلبات إلى أن اعتلى عرش المغرب.