ادريس الكنبوري
نشر ادريس الكنبوري، المتخصص في الجماعات الاسلامية، تدوينة على الفايسبوك بصفحته حول ما يجري في تونس عقب اقرار لجنة خاصة قانون جديد خاص بالإرث والمساواة، جاء فيها:" ما يجري في تونس قد يدخل البلاد في حرب داخلية ومواجهات دموية. البلد الذي بدأ منه الربيع العربي واعتقد الكثيرون أنه سيكون نموذجا في الديمقراطية أصبح نموذجا في الاتجاه المضاد. آلاف التونسيين خرجوا للاحتجاج ضد تقرير لجنة الحريات التي أقرت المساواة في الإرث وإلغاء المهر والعدة للمطلقة والأرملة وعدم تجريم الشذوذ، ويطالبون بسحب التقرير. جزء من النخبة التونسية بدأ يطلق صيحات الإنذار خوفا من الانفجار.
أخطر ما قرأته تعليقا على الموضوع عبارة "لا حكم إلا لله". ربما هذه عبارة رفعها بعض المتظاهرين. في كل الأحوال مثل هذه المواقف والسياسات الطائشة هي التي تغذي التطرف وتزيد الاحتقان. فرض أمور بالإكراه لمجرد أن لديك السلطة في يدك لا علاقة له بالحكم ولا بمسمى الدولة المدنية وإنما بالاستبداد. قوتك أن تستخدم السلطة لإكراه الناس على الحوار وتعليمهم النقاش ودفعهم إلى التفاهم، الإكراه هنا محمود.
أقول هذا نظريا. لكن عمليا وفي الواقع القضية مطبوخة خارج تونس. هناك قوى دولية تريد للدول العربية أن تظل منقسمة على الدوام وغير متفقة وبعضها يمزق بعضا. عوض أن تفعل ذلك بالمدفع والكرباج صارت أكثر ذكاء وأدخلت المصطلحات التي صارت لها قوة المدافع. الناس تمزق بعضها البعض لمجرد كلمات مثل الحداثة والعلمانية والدولة المدنية وغيرها. صار للكلمة مفعول سلاح الدمار الشامل الذي يؤدي مفعوله في مجتمعات متخلفة جائعة فقيرة بلا هوية ولا شخصية ولا كرامة. هذه من المآثر الخالدة التي خلفها لنا باحث رصين مثل سمير أمين الذي توفي قبل يومين. الماركسي العربي الشهير كان يرى أن لا وجود للتخلف على الإطلاق، لأن التخلف هو الوجه الآخر للرأسمالية، الرأسمالية لكي تعيش في مكان يجب أن يكون هناك تخلف في مكان آخر، لذلك ليس هناك تقدم موجود أمامنا ويجب أن نسير نحوه، بل هناك وضع مقابل للتخلف يجب على المتخلفين أن يحاربوا ضده. بكلمة واحدة: لا يمكن للعربي أن يصنع تقدمه بوجود قوى دولية تتلاعب به. نقطة.
هذه القوى الدولية تعرف أكثر مني بكثير جدا أن قضايا الدين حساسة في مجتمعات مسلمة، وتعرف أن المساس بها يؤدي إلى خلخلة البناء، لذلك تركز على المساس بها باستمرار لكي يستمر البناء مهدوما ولا تقوم للناس قائمة. أول ما يصنعونه بعد رفع شعار الديمقراطية هو الدعوة إلى قضايا مثل المساواة في الإرث وغير ذلك على اعتبار ذلك من الديمقراطية. يغفلون أن الحاكم لا ينتخب وأن الانتخابات تباع وأن النائب سمسار وأن القوانين تكتب لكي يدوسها الكبار ومع ذلك يختزلون الديمقراطية في قضايا الدين لأنهم لا يريدون خلخلة السياسة. فرنسا في فرنسا تعتبر قيم الجمهورية مقدسة لكن فرنسا في غير فرنسا تعتبر أن قيم الناس لا تستحق التقديس، حتى وإن كانت قيمهم مكتوبة بالقلم على الورق وقيم الناس وحيا.
قلنا غير مرة إن قضية الإرث ليست مطروحة بالحدة التي يتصورها أمثال هؤلاء ـ يتصورونها كلمة مبالغ فيها لأن الحقيقة أنهم يعرفونها ـ وأن الكثير من العائلات ليس لديها ما توزعه على الورثة سوى الفقر. في مجتمعات الفقر والبطالة والحاجة ماذا سيورث الميت الفقير؟. فالقضية قضية ثروة وطنية ودوران المنفعة بين الجميع. وإذا هناك مجتمع مدني مثلا ـ في الخيال ـ لمن نعطي الأولوية، للثروة التي تنتجها الجماعة أم تلك التي ينتجها الفرد؟. ثروة الجماعة طبعا هي التي يجب أن تكون محل تساؤل. الإسلام لديه نفس الرؤية، لذلك على سبيل المثال يقدم الزكاة على الصدقة، لأن الزكاة حق الجماعة بينما الصدقة حق للفرد مع أنها ليست حقا.
هناك تجاوزات رهيبة في قضايا الإرث في حالات كثيرة في المغرب وفي غير المغرب. هناك حالات كثيرة فيها هضم للحقوق وفيها الباطل وفيها خرق لأخلاق الإسلام، والسبب ليس هو النص بل الممارسة الاجتماعية. وتعجبني كثيرا عبارة جميلة لابن رشد رحمه الله ـ التنويري الخطير والماركسي الصنديد ـ قالها في كتاب فصل المقال مفادها: إن كان هناك شخص شرق ـ يعني اختنق ـ بشرب الماء هل نمنع الماء؟. مثل هذه الحالات يجب أن يعاد النظر فيها في أفق صياغة منهجية فقهية جديدة تتعامل مع المستجدات. أما اللجنة التونسية الشهيرة، فكان عليها ـ لو كان أعضاؤها يعقلون فعلا ويريدون الإصلاح ولا يتعاملون بالبرقيات والأظرفة ـ فكان عليها أن تقول: نحافظ على الإرث كما هو في الشريعة، ونضع قانونا يسمح لمن لا يريد الشريعة أن يورث كما يشاء. بدل أن تفعل العكس، تضع قانونا للمساواة في الإرث وتترك لمن يريد الشريعة حق العمل بها، وبالتالي يصبح الأصل فرعا والعكس أيضا، ويصبح المسلمون في تونس أقلية مقابل أغلبية هي الأقلية.
بهذا أفهم أن الأمر منطقي لأن الحرية هي الأصل."